فصل: الشاهد الثالث والستون(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد السابع والخمسون

ثلاث كلهن قتلت عمد *** فأخزى الله رابعة تعود

لما تقدم في البيت قبله‏:‏ وهو أنه حذف عائد المبتدأ الذي هو كلهن من جملة الخبر حذفاً قياسياً عند الفراء‏.‏ قال الأعلم‏:‏ استشهد به س على رفع كل مع حذف الضمير من الفعل، وجعله مثل زيد ضربت؛ ولو نصب وقال‏:‏ كله لم أصنع، وكلهن قتلت، لأجراه على ما ينبغي ولم يحتج إلى الرفع مع حذف الضمير‏.‏ والقول عندي‏:‏ أن الرفع هنا أقوى من زيد ضربت، لأن كلا لا يحسن حملها على الفعل؛ لأن أصلها أن تأتي تابعة للفعل مؤكدة، كقولك‏:‏ ضربت القوم كلهم، ومبتدأة بعد كلام نحو‏:‏ القوم كلهم ذاهب‏.‏ فإن قلت‏:‏ ضربت كل القوم، وبنيتها على الفعل لخرجت عن الأصل‏.‏ فينبغي أن يكون الرفع أقوى من النصب وتكون الضرورة حذف الهاء لا رفع كل انتهى‏.‏

وتبعه في هذا ابن الحاجب في شرح المفصل ونقله عنه السعد في المطول‏.‏ ونقل ابن الأنباري في الإنصاف أن هذا البيت مما استدل به الكوفيون على جواز تأكيد النكرة، قال‏:‏ ولا حجة لهم فيه، لأنه محمول على أنه بدل لا تأكيد‏.‏ ويجوز أن يكون أيضاً ثلاث مبتدأ، وكلهن مبتدأ ثان، وقتلت خبر كلهن، وهما جميعاً خبر ثلاث انتهى‏.‏

وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ ولا ينشد ثلاثاً بنصبه بقتلت؛ لأن قوله‏:‏ كلهن قتلت، جملة في موضع نعت لثلاث‏.‏ ومن رفع قدره‏:‏ لي ثلاث، ويكون كلهن قتلت نعتاً‏.‏ وإنما لم يجز أن يروى ثلاثاً لئلا يتقدم النعت على المنعوت انتهى‏.‏

أقول‏:‏ من رفع وجعل الجملة بعده نعتاً قدر لي ونحوه خبراً للمبتدأ‏.‏ وقوله وإنما لم يجز أن يروى ثلاثاً‏.‏‏.‏إلخ مراده‏:‏ أنه إذا نصب ثلاث بقتلت كان ثلاثاً منعوتاً بجملة كلهن قتلت ، فيكون قتلت من أجزاء النعت لثلاثاً، لأنه بعض الجملة المنعوت بها، ومع كونه من أجزاء النعت هو عامل في المنعوت المتقدم؛ فيكون المنعوت متأخراً في الرتبة، فيلزم تقديم النعت على المنعوت من حيث الرتبة‏.‏ وهذا كلام مخالف للقواعد لا ينبغي تسيطره من مثله‏.‏

ونقل ابن خلف عن أبي علي‏:‏ أن ثلاث مبتدأ، وكلهن قتلت خبر، كأنه في تقدير‏:‏ زيد أخاه ضربته‏.‏ وفيه نظر؛ فإن الشاهد ليس من باب الاشتغال لعدم الضمير‏.‏ فتأمل‏.‏

واعلم أن الضمير المحذوف من الشاهد تقديره قتلتها لأن كلاً المضافة إلى المعرفة يكون عائدها مفرداً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكلهم آتية‏}‏، وفي الحديث‏:‏ كلكم جائع إلا من أطعمته ، وقال الشاعر‏:‏

وكلهم قد نال شبعاً لبطنه *** وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه

وقال آخر‏:‏

وكل القوم يسأل عن نفيل *** كأن علي للحبشان دينا

قال أبو حيان‏:‏ ولا يكاد يوجد في لسان العرب كلهم يقومون، ولا كلهم قائمات؛ وإن كان موجوداً في تمثيل كثير من النحاة‏.‏ قال السبكي، في رسالة كل‏:‏ وقد طلبته فلم أجده‏.‏ وجوز ابن مالك وغيره أن يحمل على المعنى فيجمع، وجعلوا منه‏:‏ أنتم كلكم بينكم درهم، قالوا‏:‏ يجوز كلكم بينه درهم على اللفظ، وبينكم على المعنى، وإن جعل كلكم توكيداً جوز بعضهم أيضاً أن يقول بينه، والمشهور بينكم انتهى‏.‏

وقدر الضمير هنا بعضهم قتلتهن ، وكأنه بناه على مذهب ابن مالك‏.‏ وقدره ابن خلف نقلاً عن بعضهم‏:‏ قتلته وقتلتهم ‏.‏ ولا أعرف وجهه‏.‏

وقوله‏:‏ فأخزى الله هذه جملة دعائية، يقال‏:‏ خزي الرجل خزياً، من باب علم‏:‏ ذل وهان؛ وأخزاه الله‏:‏ أذله وأهانه‏.‏ وتعود من العود وهو الرجوع، قال صاحب المصباح‏:‏ عاد إلى كذا وعاد له أيضاً عودا وعودة‏:‏ صار إليه ، فالصلة هنا محذوفة أي‏:‏ تعود إلي‏.‏ قال ابن خلف‏:‏ يجوز أن يريد بالثلاث ثلاث نسوة تزوجهن، ويجوز أن يريد ثلاث نسوة هوينه فقتلهن هواه؛ ويعني غير ذلك مما يحتمله المعنى؛ وجعل مجيء الرابعة عودا - وإن لم تكن جاءت قبل - لأنه جعل فعل صواحبها الماضيات كأنه فعلها ‏.‏ انتهى‏.‏

وقال شارح أبيات الموشح‏:‏ ويروى‏:‏ تقود من القود، وهو القصاص‏.‏

وهذا البيت - وإن كان من شواهد س - لا يعرف ما قبله ولا ما بعده ولا قائله، فإن سيبويه إذا استشهد ببيت لم يذكر ناظمه‏.‏ وأما الأبيات المنسوبة في كتابه إلى قائليها فالنسبة حادثة بعده‏:‏ اعتنى بنسبتها أبو علي الجرمي‏.‏ قال الجرمي‏:‏ نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتاً، فأما ألف فعرفت أسماء قائليها فأثبتها؛ وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها ‏.‏

وإنما امتنع سيبويه من تسمية الشعراء لأنه كره أن يذكر الشاعر وبعض الشعراء يروى لشاعرين وبعضه منحول لا يعرف قائله، لأنه قدم العهد به؛ وفي كتابه شيء مما يروى لشاعرين؛ فاعتمد على شيوخه ونسب الإنشاد إليهم، فيقول‏:‏ أنشدنا، يعني الخليل، ويقول‏:‏ أنشدنا يونس؛ وكذلك يفعل فيما يحكيه عن أبي الخطاب وغيره ممن أخذ عنه‏.‏ وربما قال‏:‏ أنشدني أعرابي فصيح ‏.‏ وزعم بعض الذين ينظرون في الشعر أن في كتابه أبياتاً لا تعرف، فيقال له‏:‏ لسنا ننكر أن تكون أنت لا تعرفها ولا أهل زمانك وقد خرج كتاب سيبويه إلى الناس والعلماء كثير، والعناية بالعلم وتهذيبه أكيدة، ونظر فيه وفتش؛ فما طعن أحد من المتقدمين عليه ولا ادعى أنه أتى بشعر منكر‏.‏ وقد روى في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفة جميع ما فيها ولا ردوا حرفاً منها‏.‏

قال أبو إسحاق‏:‏ إذا تأملت الأمثلة من كناب سيبويه تبينت أنه أعلم الناس باللغة‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وحدثنا علين بن سليمان قال‏:‏ حدثنا محمد بن يزيد‏:‏ أن المفتشين من أهل العربية ومن له المعرفة باللغة تتبعوا على سيبويه الأمثلة، فلم يجدوه ترك من كلام العرب إلى ثلاثة أمثلة‏:‏ منها الهندلع وهي بقلة، والدرداقس وهو عظم في القفا، وشنمصير وهو اسم أرض‏.‏

وقد فسر الأصمعي حروفاً من اللغة التي في كتابه، وفسر الجرمي الأبنية، وفسرها أبو حاتم أحمد بن يحيى‏.‏ وكل واحد منهم يقول ما عنده فيما يعلمه، ويقف عما لا علم له به، ولا يطعن على ما لا يعرفه، ويعترف لسيبويه في اللغة بالثقة وأنه علم ما لم يعلموا، وروى ما لم يرووا‏.‏

قال أبو جعفر‏:‏ لم يزل أهل العربية يفضلون كتاب سيبويه، حتى لقد قال محمد بن يزيد‏:‏ لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه، وذلك‏:‏ أن الكتب المصنفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره‏.‏ وقال أبو جعفر‏:‏ سمعت أبا بكر بن شقير يقول‏:‏ حدثني أبو جعفر الطبري قال‏:‏ سمعت الجرمي يقول هذا‏!‏ وأومأ بيديه إلى أذنيه؛ وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ وقد حكى بعض النحويين أن الكسائي قرأ على الأخفش كتاب سيبويه ودفع إليه مائتي دينار‏.‏ وحكى أحمد بن جعفر‏:‏ أن كتاب سيبويه وجد بعضه تحت وسادة الفراء التي كان يجلس عليها‏.‏ وكان المبرد يقول - إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه -‏:‏ هل ركبت البحر‏؟‏ تعظيماً لما فيه، واستصعاباً لألفاظه ومعانيه‏.‏

قال المازني‏:‏ من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي مما أقدم عليه‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ما أخلو في كل زمن من أعجوبة في كتاب سيبويه، ولهذا سماه الناس قرآن النحو‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ نظرنا في كتاب سيبويه فوجدناه في الموضع الذي يستحقه، ووجدنا ألفاظه تحتاج إلى عبارة وإيضاح، لأنه كتاب ألف في زمان كان أهله يألفون مثل هذه الألفاظ، فاختصر على مذاهبهم قال أبو جعفر‏:‏ ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى غير ما قال ابن كيسان، قال‏:‏ عمل سيبويه كتابه على لغة العرب وخطبها وبلاغتها؛ فجعل فيه بيناً مشروحاً، وجعل فيه مشتبهاً، ليكون لمن استنبط ونظر فضل‏.‏ وعلى هذا خاطبهم الله عز وجل بالقرآن‏.‏

قال أبو جعفر‏:‏ وهذا الذي قاله علي بن سليمان حسن، لأن بهذا يشرف قدر العالم وتفضل منزلته، إذ كان ينال العلم بالفكرة واستنباط المعرفة؛ ولو كان كله بيناً لاستوى في علمه جميع من سمعه، فيبطل التفاضل؛ ولكن يستخرج منه الشيء بالتدبر، ولذلك لا يمل، لأنه يزداد في تدبره علماً وفهماً‏.‏

وقال محمد بن يزيد المبرد‏:‏ قال يونس - وقد ذكر عنده سيبويه -‏:‏ أظن هذا الغلام يكذب على الخليل‏.‏ فقيل له‏:‏ قد روى عنك أشياء فانظر فيها‏.‏ فنظر وقال‏:‏ صدق في جميع ما قال هو قولي‏.‏

ومات سيبويه قبل جماعة قد كان أخذ عنهم كيونس وغيره وقد كان يونس مات في ثلاث وثمانين ومائة‏.‏ وذكر أبو زيد النحوي اللغوي كالمفتخر بذلك بعد موت سيبويه قال‏:‏ كل ما قال سيبويه وأخبرني الثقة فأنا أخبرته به‏.‏

ومات أبو زيد بعد موت سيبويه بنيف وثلاثين سنة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثامن والخمسون‏:‏

فأقبلت زحفاً على الركبتين *** فثوب نسيت وثوب أجر

على أن حذف الضمير المنصوب بالفعل من الخبر سماعي، أي‏:‏ فثوب نسيته وثوب أجره‏.‏

قال ابن عقيل في شرح الألفية‏:‏ وجاز الابتداء بثوب وهو نكرة لأنه قصد به التنويع‏.‏

قال الأعلم‏:‏ ويجوز عندي أن يكون نسيت وأجر من نعت الثوبين، فيمتنع أن يعمل فيه، لأن النعت لا يعمل في المنعوت؛ فيكون التقدير فثوباي ثوب منسي ثوب مجرور‏.‏

وقال ابن هشام في مغني اللبيب‏:‏ ومما ذكروا من المسوغات‏:‏ أن تكون النكرة للتفصيل، نحو‏:‏ فثوب نسيت وثوب أجر‏.‏ وفيه نظر، لاحتمال نسيت وأجر للوصفية والخبر محذوف؛ أي‏:‏ فمن أثوابي ثوب نسيته، ومنها ثوب أجره‏.‏ ويحتمل أنهما خبران وثم صفتان مقدرتان، أي‏:‏ فثوب لي نسيته وثوب لي أجره‏.‏ وإنما نسي ثوبه لشغل قلبه، كما قال‏:‏

لعوب تنسيني إذا قمت سربالي

وإنما جر الآخر ليعفي الأثر على القافة؛ ولهذا زحف على الركبتين انتهى‏.‏

والقافة‏:‏ جمع قائف، وهو من يعرف الآثار؛ يقال‏:‏ قفا أثره، أي‏:‏ تبعه‏.‏

وروى‏:‏

فلما دنوت تسديته *** فثوب نسيت‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏إلخ

قال ابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ يقال تسديته‏:‏ إذا تخطيت إليه، وقيل‏:‏ علوته‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ وروى‏:‏

فثوباً نسيت وثوباً أجر

وعليه فهو مفعول لما بعده‏.‏

وهو من قصيدة لامرئ القيس، عدتها اثنان وأربعون بيتاً‏.‏ ومطلعه‏:‏ المتقارب

لا وأبيك ابنة العامر *** ي لا يدعي القوم إني أفر

وسيأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حروف الزيادة في آخر الكتاب‏.‏

وأثبت هذه القصيدة له أبو عمرو الشيباني والمفضل وغيرهما‏.‏ وزعم الأصمعي في روايته عن أبي عمرو بن العلاء أنها لرجل من أولاد النمر بن قاسط، يقال له ربيعة ابن جشعم، وأولها عنده‏:‏

أحار بن عمرو كأني خمر *** ويعدو على المرء ما يأتمر

وبه استشهد ابن أم قاسم في شرح الألفية لتنوين الغالي حيث لحق الروي المقيد، رواه‏:‏ ما يأتمرون بضم الراء‏.‏ والهمزة للنداء، وحار مرخم حارث‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ والخمار‏:‏ بقية السكر، تقول منه رجل خمر بفتح فكسر، أي‏:‏ في عقب خمار‏.‏ ويقال‏:‏ هو الذي خامره الداء، أي‏:‏ خالطه‏.‏ وعدا عليه‏:‏ جار‏.‏ والائتمار‏:‏ الامتثال، أي‏:‏ ما تأمر به نفسه فيرى أنه رشد فربما كان هلاكه فيه‏.‏ والوا عطفت جملة فعلية على جملة اسمية على قولين من ثلاثة أقوال‏:‏ الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والجواز مع الواو فقط‏.‏ وليست للاستئناف، ولا للتعليل، ولا زائدة، كما زعمها العيني‏.‏

وبعد بيت الشاهد‏:‏ المتقارب

ولم يرنا كالئ كاشح *** ولم يفش منا لدى البيت سر

وقد رابني قولها يا هن *** ه، ويحك ألحقت شراً بشر

والكالئ بالهمز‏:‏ الحارس والرقيب‏.‏ والكاشح‏:‏ المبغض‏.‏ ورابني‏:‏ أوقعني في الريبة‏.‏ وهناه‏:‏ كلمة يكنى بها عن النكرات، كما يكنى بفلان عن الأعلام، فمعنى يا هناه يا رجل؛ ولا يستعمل إلا في النداء عن الجفاء والغلظة‏.‏ وقوله‏:‏ ألحقت شراً بشر ، أي‏:‏ كنت متهماً فلما صرت إلينا ألحقت تهمة بعد تهمة‏.‏ وهذه الضمائر المؤنثة راجعة إلى هر بكسر الهاء وتشديد الراء؛ وكنيتها أم الحويرث، وهي التي كان يشبب بها في أشعاره، وكانت زوجة والده، فلذلك كان طرده وهم بقتله من أجلها‏.‏ وفي هذه القصيدة بيت في وصف فرسه، يأتي شرحه إن شاء الله في أفعال القلوب‏.‏

وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد التاسع والخمسون

لعمرك ما معن بتارك حقه *** ولا منسئ معن ولا متيسر

على أن وضع الظاهر مقام الضمير إن لم يكن في معرض التفخيم فعند س يجوز في الشعر بشرط أن يكون بلفظ الأول كهذا البيت‏.‏

وهو للفرزدق أول بيتين ثانيهما‏:‏

أتطلب يا عوران فضل نبيذهم *** وعندك يا عوران زق موكر

واللام لام الابتداء‏.‏و العمر‏:‏ الحياة‏.‏ والمعنى أنه أقسم بحياة مخاطبه لعزته عليه‏.‏ والعمر فتحاً وضماً واحد، غير أنه متى اتصل بلام الابتداء مقسماً به وجب فتح عينه، وإلا جاز الأمران‏.‏ وهو مبتدأ خبره محذوف تقديره‏:‏ قسمي، وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله، في المفعول المطلق‏.‏ وجملة ما معن، إلخ جواب القسم، وما نافية تميمية زيدت الباء في خبرها‏.‏ ومعن قال أبو بكر علي القالي في ذيل أماليه‏:‏ قال أبو محلم‏:‏ هو رجل كان كلاء بالبادية‏:‏ يبيع بالكالئ، أي‏:‏ بالنسيئة، وكان يضرب به المثل في شدة التقاضي‏.‏ قال سيار بن هبيرة يعاتب خالداً وزياداً أخويه‏:‏

يؤذنني هذا ويمنع فضله *** وهذا كمعن وأشد تقاضيا

يؤذنني‏:‏ يحرمني، مضارع أذنه بتشديد الذال المعجمة‏.‏ قال في المصباح‏:‏ وكلأ الدين يكلأ مهموز بفتحتين كلوءاً‏:‏ تأخر، فهو كالئ بالهمز؛ ويجوز تخفيفه فيصير كالقاضي‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ هو مثل القاضي ولا يجوز همزه‏.‏ ونهي عن بيع الكلئ بالكالئ، أي‏:‏ بيع النسيئة بالنسيئة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ صورته أن يسلم الرجل الدراهم في طعام إلى أجل فإذا حل الأجل يقول الذي عليه الطعام‏:‏ ليس عندي طعام ولكن بعني إياه إلى أجل؛ فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة، فلو قبض الطعام ثم باعه منه ومن غيره لم يكن كالئاً بكالئ‏.‏ ويعدى بالهمزة والتضعيف انتهى‏.‏

وقال شراح أبيات الكتاب‏:‏ عنى بالبيت معن بن زائدة الشيباني، وهو أحد أجواد العرب وسمائحهم‏.‏ فوصفه ظلماً بسوء الاقتضاء وأخذ الغريم على عسره وأنه لا ينسئه بدينه‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا غير صحيح، فإن معن بن زائدة متأخر عن الفرزدق، فإنه قد توفي الفرزدق في سنة عشر ومائة، وتوفي معن بن زائدة في سنة ثمان وخمسين ومائة‏.‏

وقوله‏:‏ ولا منسئ هو اسم فاعل من أنسأت الشيء‏:‏ أخرته، ويقال أيضاً نسأته، فعلت وأفعلت بمعنى، فالمفعول محذوف، أي‏:‏ حقه‏.‏ قال الشارح‏:‏ الرواية بجر منسئ، وإذا رفعته فهو خبر مقدم على المبتدأ ‏.‏ أقول‏:‏ الجر يكون بالعطف على مدخول الباء الزائدة، ومعن فاعله أقيم مقام الضمير، فيكون من تتمة الجملة الأولى‏.‏ إذا رفع كان من جملة أخرى‏.‏ وبالرفع أنشده سيبويه‏.‏

قال الأعلم‏:‏ استشهد به سيبويه على أن تكرير الاسم مظهراً من جملتين أحسن من تكريره في جملة واحدة، فلو حمل البيت على أن التكرير من جملة واحدة لقال‏:‏ ولا منسئ معن عطف على قوله‏:‏ بتارك حقه؛ ولكنه كرره مظهراً، ولما أمكنه أن يجعل الكلام جملتين استأنف الكلام فرفع الخبر ‏.‏

وقال‏:‏ اعلم أن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكرير ذكره في جملة واحدة كان الاختيار أن يذكر ضميره، لأهن ذلك أخف وأنفى للشبهة واللبس، كقولك‏:‏ زيد ضربته، ولو أعدت لفظه بعينه في موضع كنايته لجاز ولم يكن وجه الكلام كقولك‏:‏ زيد ضربت زيداً - على معنى زيد ضربته - وإذا أعدت ذكره في غير تلك الجملة جاز إعادة ظاهره وحسن كقولك‏:‏ مررت بزيد وزيد رجل صالح؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ فأعاد الظاهر لأن قوله الله أعلم ابتداء وخبر، وقد مرت الجملة الأولى‏.‏ فإذا قلت‏:‏ ما زيد ذاهباً ولا محسن زيد، جاز الرفع والنصب؛ فإذا نصبت فقلت‏:‏ ولا محسناً زيد جعلت زيداً هذا الظهر بمنزلة كنايته، فأنك قلت‏:‏ ما زيد ذاهباً ولا محسناً، كما تقول ولا محسناً أبوه، فتعطف محسناً على ذاهباً وترفع زيداً بفعله وهو محسن، فإذا رفعت جعلت زيداً كالأجنبي ورفعته بالابتداء وجعلت محسناً خبراً مقدماً‏.‏

واختار سيبويه الرفع لأن العرب لا تعيد لفظ الظاهر إلا أن تكون الجملة الأولى غير الجملة الثانية وتكون الثانية مستأنفة كما قلنا في‏:‏ رسل الله الله أعلم ‏.‏ فإذا رفعته فهو مطابق لما ذكرناه وخرج عن باب العيب، لأنك جعلته جملة مستأنفة‏.‏ واستشهد سيبويه لجواز النصب وجعل الظاهر بمنزلة المضمر بقوله‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

فأعاد الإظهار، وذلك أن قوله لا أرى الموت يسبق الموت شيء، الموت الأول هو المفعول الأول لأرى، ويسبق الموت شيء في موضع المفعول الثاني وهما في جملة واحدة؛ وكان ينبغي أن يقول بسبقه شيء فيضمره‏.‏

واستشهد لاختيار الرفع فيما اختاره فيه بقول الفرزدق‏:‏

لعمرك ما معن بتارك حقه‏.‏‏.‏ البيت

ومعن الثاني هو الأول، فهو بمنزلة قوله ما زيد ذاهباً ولا محسن زيد‏.‏ وللمعترض أن يقول‏:‏ الفرزدق تميمي وهو يرفع خبر ما على كل حال مكنياً كان وظاهراً، ألا ترى أن الفرزدق من لغته أن يقول‏:‏ ما معن تارك حقه ولا منسئ هو‏.‏ فالظاهر والمكنى على لغته سواء انتهى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الستون

لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

لما تقدم في البيت قبله، أي‏:‏ لا أرى الموت يسبقه شيء، أي‏:‏ لا يفوته‏.‏ وأنشده ثانياً في الأخبار بالذي وجعله من قبيل الحاقة ما الحاقة مما إظهاره يفيد التفخيم، فخالف كلامه هنا‏.‏ وتبع الشارح هنا س‏.‏

وخالفه المبرد في هذا وفرق بينه وبين ما ذكر، لأن الموت جنس‏.‏ وإنما كره زيد قام زيد، لئلا يتوهم أن الثاني خلاف الأول، وهذا لا يتوهم في الأجناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏.‏ وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏‏.‏ وكذا إذا اقترن بالاسم الثاني حرف الاستفهام بمعنى التعظيم والتعجب كان الباب الإظهار، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏القارعة ما القارعة‏}‏ والحاقة ما الحاقة ‏.‏ والإضمار جائز كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأمه هاوية‏.‏ وما أدراك ما هيه‏}‏‏.‏

وكذلك لم يرتضه شراح أبياته‏.‏ قال الأعلم - وتبعه ابن خلف، ومثله لأبي جعفر النحاس -‏:‏ استشهد بهذا البيت سيبويه على إعادة الظاهر موضع المضمر، وفيه قبح إذا كان تكريره في جملة واحدة، لأنه يستغني بعضها عن بعض، فلا يكاد يجوز إلا في ضرورة، كقولك‏:‏ زيد ضربت زيداً، فإن كان إعادته في جملتين حسن، كقولك‏:‏ زيد شتمته وزيد أهنته، لأنه قد يمكن أن تسكت عن الجملة الأولى ثم تستأنف الأخرى بعد ذكر رجل غير زيد‏.‏ فلو قيل زيد ضربته وهو أهنته، لجاز أن يتوهم الضمير لغير زيد، فإذا أعيد مظهراً وزال التوهم‏.‏ ومع إعادته مضمراً في الجملة الواحدة، كقولك‏:‏ زيد ضربته، لا يتوهم الضمير لغيره؛ لأنك لا تقول‏:‏ زيد ضربت عمراً‏.‏

والإظهار في مثل هذا أحسن منه في هذا ونحوه، لأن الموت اسم جنس، فإذا أعيد وظهراً لم يتوهم أنه اسم لشيء آخر‏.‏ فلذلك كان الإظهار في هذا أمثل، لأنه أشكل‏.‏

وقوله‏:‏ نغض الموت‏.‏‏.‏إلخ يريد‏:‏ نغض عيش ذي الغنى والفقير‏.‏ يعني أن خوف الغني من الموت ينغص عليه الالتذاذ بالغنى والسرور به، وخوف الفقير من الموت ينغص عليه السعي في التماس الغنى لأنه لا يعلم أنه - إذا وصل إليه الغنى - هل يبقى حتى ينتفع به، ويقطعه الموت عن الانتفاع‏؟‏ وهذا البيت من قصيدة لعدي بن زيد، وقيل لابنه سوادة بن عدي‏.‏ والصحيح الأول‏.‏ وأولها‏:‏

طال ليلي أراقب التنوير *** أرقب الليل بالصباح بصيرا

شط وصل الذي تريدين مني *** وصغير الأمور يجني الكبيرا

إن للدهر صولة، فاحذرنه *** لا تبيتن قد أمنت الدهورا

قد يبات الفتى صحيحاً فيردى *** ولقد بات آمناً مسرورا

لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

للمنايا مع الغدو راح *** كل يوم ترى لهن عقيرا

كم ترى اليوم من صحيح تمنى *** وغدا حشو ريطة مقبورا

أين أين الفرار مما سيأتي‏!‏ *** لا أرى طائراً نجا أن يطيرا

فامش قصداً إذا مشيت وأبصر *** إن للقصد منهجاً وجسورا

إن في القصد لابن آدم خير *** وسبيلاً على الضعيف يسير

عدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب، من بني امرئ القيس بن زيد بن مناة بن تميم‏.‏

قال صاحب الأغاني‏:‏ وكان أيوب هذا أول من سمي من العرب أيوب‏.‏ وكان عدي شاعراً فصيحاً من شعراء الجاهلية، وكان نصرانياً، وكذلك أبوه وأمه وأهله‏.‏ وليس ممن يعد من الفحول‏.‏ وهو قروي قد أخذوا عليه أشياء عيب فيها‏.‏ وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان‏:‏ عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم‏:‏ يعارضها ولا يجري معها مجراها‏.‏ وكذلك عندهم أمية بن أبي الصلت‏.‏ ومثلهما من الإسلاميين‏:‏ الكميت، والطرماح‏.‏

وكان سبب نزول آل عدي بن زيد الحيرة أن جده أيوب بن محروف كان منزله اليمامة في بني امرئ القيس بن زيد مناة، بن تميم ، فأصاب دماً في قومه؛ فهرب إلى أوس بن قلام‏:‏ أحد بني الحارث بن كعب بالحيرة، وكان بينهما نسب من قبل النساء، فأكرمه وابتاع له موضع دار ه بثلاثمائة أوقية من ذهب، وأنفق عليها مائتي أوقية ذهباً، وأعطاه مائتين من الإبل برعاتها، وفرساً، وقينة، واتصل بملوك الحيرة فعرفوا حقه وحق ابنه زيد من أيوب، فلم يكن منهم ملك يملك إلا ولود أيوب منه جوائز‏.‏ ثم إن زيداً بن أيوب نكح امرأة من آل قلام فولدت له حماداً ‏.‏ فخرج زيد بن أيوب يوماً للصيد، فلقيه رجل من بني امرئ القيس الذين كان لهم الثأر فاغتال زيداً وهرب، ومكث حماد في أخواله حتى أيفع وعلمته أمه الكتابة؛ فكان أول من كتب من بني أيوب، فخرج من أكتب الناس طلب حتى صار كاتب الملك النعمان الأكبر؛ فلبث كاتباً له حتى ولد له ولد فسماه زيداً باسم أبيه‏.‏

وكان لحماد صديق من دهاقين الفرس اسمه فرخ ماهان‏.‏ فلما حضرت الوفاة حماداً أوصى بابنه زيد إلى الدهقان - وكان من المرازبة - فأخذه إليه‏.‏‏.‏ وكان زيد قد حذق الكتابة والعربية قبل أن يأخذه الدهقان ، وعلمه الدهقان الفارسية‏.‏ وكان لبيباً، فأشار الدهقان إلى كسرى أن يجعله على البريد في حوائجه، فولاه وبقي زماناً‏.‏ ثم إن النعمان النصري هلك، فاختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه إلى أن يعقد كسرى الأمر لرجل منهم؛ فأشار المرزبان عليهم بزيد بن حماد، فكان على الحيرة إلى أن ملك كسرى المنذر بن ماء السماء‏.‏

ونكح زيد نعمة بنت ثعلبة العدوية فولدت له عدياً ‏.‏ وولد للمرزبان وسماه شاهان مرد ‏.‏ فلما أيفع عدي أرسله المرزبان مع ابنه إلى كتاب الفارسية، وتعلم الكتابة والكلام بالفارسية، حتى خرج من أفهم الناس بها وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب فخرج من الأساورة الرماة ، ونعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها‏.‏

ثم إن المرزبان لما اجتمع بكسرى قال له‏:‏ إن عدي غلاماً من العرب هو أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية، والملك يحتاج إلى مثله‏.‏ فأحضر المرزبان عدي بن زيد، وكان جميل الوجه فائق الحسن - وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه - فرغب فيه؛ فكان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى‏.‏ فرغب أهل الحيرة إلى عدي ورهبوه‏.‏ ولم يزل بالمدائن في ديوان كسرى معظماً‏.‏ وأبوه زيد كان حياً، إلا أن صيته قد حمل بذكر ابنه عدي‏.‏ ثم لما هلك المنذر اجتهد عدي عند كسرى حتى ملك النعمان بن منذر الحيرة‏.‏

ثم بعد مدة افتروا على عدي وقالوا للنعمان‏:‏ إن عدياً يزعم أنك عامله على الحيرة‏.‏ فاغتاظ منه النعمان وأرسل إلى عدي بأنه مشتاق إليه يستزيره‏.‏ فلما أتى إليه حبسه، وبقي في الحبس إلى أن جاء رسول كسرى ليخرجه؛ فخاف النعمان من خلاصه فغمه حتى مات؛ وندم النعمان على قتله، وعرف أنه غلب على رأيه‏.‏

ثم إنه خرج يوماً إلى الصيد فلقي ابناً لعدي يقال له زيد؛ فلما رآه عرف شبهه فقال له‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا زيد بن عدي‏.‏ فكلمه فإذا هو غلام ظريف؛ ففرح به فرحاً شديداً، فقربه واعتذر إليه من أمر أبيه، ثم كتب إلى كسرى يربيه ويشفع له مكان أبيه‏.‏ فولاه كسرى‏.‏ وكان يلي الكتابة عنده إلى ملوك العرب وفي خواص أمور الملك‏.‏ وكانت لملوك العجم صفة النساء مكتوبة عندهم، وكانوا يبعثون في تلك الأرضين تلك الصفة؛ فإذا وجدت حملت إلى الملك؛ غير أنهم لم يكونوا يطلبونها في أرض العرب‏.‏

فما كتب كسرى في طلب تلك الصفة قال له زيد بن عدي‏:‏ أنا عارف بآل المنذر وعند عبدك النعمان - بين بناته وأخواته وبنات عمه - أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة، فابعثني مع ثقة من رجالك يفهم العربية حتى أبلغ ما تحبه‏.‏ فبعث معه رجلاً فطناً وخرج به زيد، فجعل يكرم الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة؛ فلما دخل على النعمان قال له‏:‏ إن كسرى قد احتاج إلى نساء لنفسه ولولده، وأراد كرامتك بصهره فبعث إليك‏.‏

فقال النعمان لزيد - والرسول يسمع -‏:‏ أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته‏؟‏‏!‏ فقال الرسول لزيد، بالفارسية‏:‏ ما المها‏؟‏ فقال له، بالفارسية‏:‏ كاوان، أي‏:‏ البقر‏.‏ فأمسك الرسول، وقال زيد للنعمان‏:‏ إنما أراد الملك أن يكرمك، ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به‏.‏ فأنزلهما عنده يومين، ثم كتب إلى كسرى‏:‏ إن الذي طلب الملك ليس عندي‏.‏ وقال لزيد‏:‏ اعذرني عنده‏.‏ فلما رجع إلى كسرى قال زيد للرسول‏:‏ اصدق الملك عما سمعت، فإني سأحدثه بمثل حديثك ولا أخالفك فيه‏!‏

فلما دخلا على كسرى قال زيد‏:‏ هذا كتابه‏.‏ فقرأ عليه، فقال له كسرى‏:‏ وأين الذي كنت خبرتني به‏؟‏ قال‏:‏ قد كنت خبرتك ببخلهم بنسائهم على غيرهم، وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، وإيثارهم السموم على طيب أرضك، حتى أنهم ليسمونها السجن، فسل هذا الرسول الذي كان معي عما قال، فإني أكرم الملك عن مشافهته بما قال‏.‏ فقال للرسول‏:‏ وما قال التعمان‏؟‏ فقال له الرسول‏:‏ إنه قال‏:‏ أما كان في بقر السواد وفارس ما يكفيه، حتى يطلب ما عندنا‏؟‏‏!‏ فعرف الغضب في وجهه‏؟‏ وسكت كسرى أشهراً - وسمع النعمان غضبه - ثم كتب إليه كسرى‏:‏ أن أقبل، فإن لي حاجة بك‏.‏ فخافه النعمان وحمل سلاحه وما قدر عليه ولجأ إلى قبائل العرب فلم يجره أحد، وقالوا‏:‏ لا طاقة لنا بكسرى‏.‏‏.‏ حتى نزل بذي قار في بني شيبان سراً، فلقي هانئ بن قبيصة، فأجاره وقال‏:‏ لزمني ذمامك، وإني مانعك مما أمنع منه نفسي وأهلي، وإن ذلك مهلكي ومهلكك‏.‏ وعندي رأي لست أشير به لأدفعك عما تريده من مجاورتي؛ ولكنه الصواب‏.‏ فقال‏:‏ هاته‏!‏ قال‏:‏ إن كل أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه، إلا أن يكون بعد الملك سوقة؛ والموت نازل بكل أحد؛ ولأن تموت كريماً خير من أن تتجرع الذل وتبقى سوقة بعد الملك‏.‏‏.‏ امض إلى صاحبك واحمل إليه هدايا ومالاً، والق نفسك بين يديه، فإما أن يصفح عنك فعدت ملكاً عزيزاً، وإما أن يصيبك فالموت خير من أن تتلعب بك صعاليك العرب ويتخطفك ذئابها‏.‏‏.‏ قال‏:‏ فكيف بحرمي وأهلي‏؟‏ قال هن في ذمتي، لا يخلصن إليهن حتى يخلص إلى بناتي‏.‏ فقال‏:‏ هذا - وأبيك - الرأي‏!‏ ثم اختار خيلاً وحللاً من عصب اليمن، وجواهر وطرفا كانت عنده، ووجه بها إلى كسرى، وكتب إليه يعتذر ويعلمه أنه صائر إليه‏.‏ فقبلها كسرى وأمره بالقدوم‏.‏ فعاد إليه الرسول وأخبره بذلك وأنه لم ير له عند كسرى سوءاً‏.‏ فمضى إليه حتى إذا وصل إلى ساباط لقيه زيد بن عدي فقال له‏:‏ انج نعيم، إن استطعت النجاة‏!‏ فقال له النعمان‏:‏ أفعلتها يا زيد‏!‏ أما والله لئن عشت لأقتلنك قتلة لم يقتلها عربي قط‏!‏ فقال له زيد‏:‏ قد - والله - أخيت لك آخية لا يقطعها المهر الأرن فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه، فقيده وسجنه، فلم يزل في السجن حتى هلك‏.‏ وقيل‏:‏ ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات‏.‏ وذلك قبيل الإسلام بمدة، وغضبت له العرب حينئذ، فكان قتله سبب وقعة ذي قار ‏.‏

وأنشد بعده وهو

الشاهد الحادي والستون

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت *** حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا

على أن الاسم إن أعيد ثانياً ولم يكن بلفظ الأول لم يجز عند سيبويه، ويجوز عند الأخفش سواء كان في شعر أم في غيره، كهذا البيت‏.‏

قال ابن جني في إعراب الحماسة، عند قول أبي النشناش‏:‏

إذا المرء لم يسرح سواماً ولم يرح *** سواماً ولم تعطف عليه أقاربه

فللموت خير للفتى من حياته *** فقيراً ومن مولى تدب عقاربه

كان يجب أن يقول‏:‏ فللموت خير له؛ فعدل عن المظهر والمضمر جميعاً إلى لفظ آخر، كقوله‏:‏

إذا المرء لم يغش الكريهة‏.‏‏.‏ البيت

وسبب ذلك أن هذا المظهر المخالف للفظ المظهر قبله، قد أشبه عندهم المضمر، من حيث كان مخالفاً للفظ المظهر قبله خلاف المضمر له‏.‏

وقال ابن رشيق في العمدة‏:‏ قوله بالفتى حشو؛ وكان الواجب أن يقول به لأن ذكره المرء قد تقدم؛ إلا أن يريد بالفتى معنى الزراية والأطنوزة، فإنه محتمل ‏.‏ وهذا تخيل دقيق‏.‏ والغشيان‏:‏ الإتيان، يقال غشية من باب تعب‏:‏ أتيته‏.‏ والكريهة الحرب؛ وقيل‏:‏ شدتها، وقيل النازلة‏.‏ وهذا هو المراد هنا‏.‏ وأوشكت‏:‏ قاربت ودنت‏.‏ والحبال‏:‏ جمع حبل بمعنى السبب، استعير لكل شيء يتوصل به إلى أمر من الأمور‏.‏ والهوينى‏:‏ الرفق والراحة؛ وعدة ابن دريد في الجمهرة في الكلمات التي وردت مصغرة لا غير، قال‏:‏ والسكون والخفض‏.‏ قال السمين، في عمدة الحفاظ‏:‏ يقال‏:‏ فلان يمشي الهوينى وهو مصغر الهونى، والهونى تأنيث الأهون كالفضلى تأنيث الأفضل‏.‏ وبالفتى الباء للمصاحبة فيكون حالاً، وبمعنى عن فيتعلق بما بعدها، وجاز لأنه ظرف، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتقطعت بهم الأسباب‏}‏‏.‏

قال السمين‏:‏ في الباء أربعة أوجه‏:‏ أحدها للحال أي‏:‏ تقطعت موصولة بهم الأسباب‏.‏ الثاني للتعدية، أي‏:‏ قطعتهم لأسباب قولهم‏:‏ تفرقت بهم الطرق، أي‏:‏ فرقتهم‏.‏ الثالث للسببية، أي‏:‏ تقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون بها النجاة‏.‏ والرابع بمعنى عن، أي‏:‏ تقطعت عنهم الأسباب الموصلات بينهم وهي مجاز؛ والسبب في الأصل الحبل، ثم أطلق على كل ما يتوصل به إلى شيء، عيناً كان ومعنى‏.‏ وتقطعا أصله تتقطع بتاءين، وفاعله ضمير حبال‏.‏

وهذا البيت آخر أبيات للكلحبة العريني، وهي‏:‏

فإن تنج منها يا حزيم بن طارق *** فقد تركت ما خلف ظهرك بلقعا

ونادى منادي الحي‏:‏ أن قد أتيتم *** وقد شربت ماء المزادة أجمعا

وقلت لكأس‏:‏ ألجميها فإنم *** نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا

فأدرك إبقاء العرادة ظلعه *** وقد جعلتني من حزيمة إصبعا

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** ولا أمر للمعصي إلا مضيعا

إذا المر لم يغش الكريهة ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وسبب هذه الأبيات أن الكلحبة كان نازلاً بزرود - وهي أرض بني مالك ابن حنظلة، وهو من بني يربوع - فأغارت بنو تغلب على بني مالك، وكان رئيسهم حزيمة بن طارق، فاستاق إبلهم، فأتي الصريخ إلى بني يربوع فركبوا في أثره فهزموه واسنتقذوا ما كان أخذه‏.‏

فقوله‏:‏ إن تنج منها ، الضمير راجع إلى فرس الكلحبة‏.‏ وحزيم بفتح الحاء المهملة وكسر الزاي المعجمة‏:‏ مرخم حزيمة‏.‏

وهذا البيت يشهد بانفلاته، وشعر جرير يشهد بأسره، وهو‏:‏ الكامل

قدنا حزيمة قد علمتم عنوة

ولا مانع منه؛ بأن أدركه غير الكلحبة وأسره لما ظلعت فرسه‏.‏

قيل‏:‏ ولما أسر اختصم فيه اثنان‏:‏ أحدهما أنيف بن جبلة الضبي، وهو أحد بني عبد مناة بن سعد بن ضبة، وكان أنيف يومئذ نازلاً في بني يربوع وليس معه من قومه أحد‏.‏ وثانيهما‏:‏ أسيد بن حناءة السليطي‏.‏ فاختصما إلى الحارث بن قراد فحكم‏:‏ أن جز ناصيته لأنيف، وأن لأسيد عنده مائة من الإبل‏.‏ فرضيا بذلك‏.‏

والحارث بن قراد من بني حميري بن رياح بن يربوع‏.‏ وأمه من بني عيد مناة بن بكر بن سعد بن ضبة‏.‏

وقوله‏:‏ فقد تركت إلخ ، العرب كثيراً ما تذكر أن الخيل فعلت كذا وكذا، وإنما يراد به أصحابها، لأنهم عليها فعلوا وأدركوا‏.‏ يقول‏:‏ إن تنج يا حزيمة من فرسي لم تفلت إلا بنفسك؛ وقد استبيح مالك وما كنت حويته وغنمته، فلم تدع لك هذه الفرس شيئاً‏.‏

وقوله‏:‏ ونادي منادي الحي إلخ كأن الكلحبة يعتذر من انفلات حزيمة، يقول‏:‏ أتى الصريخ وقد شربت فرسي ملء الحوض ماء‏.‏

وخيل العرب إذا علمت أنه يغار عليها - وكانت عطاشاً - فمنها ما يشرب بعض الشراب ولا يروى، وبعضها لا يشرب البتة لما قد جربت من الشدة التي تلقى إذا شربت الماء وحورب عليها‏.‏ وفاعل شربت ضمير الفرس‏.‏ وجملة قد شربت حال، أي‏:‏ أتيتم في هذه الحال‏.‏

وقوله‏:‏ وقلت لكأس‏.‏ البيت كأس بنت الكلحبة، وقيل جاريته؛ والعرب لا تثق بخيلها إلا بأولادها ونسائها‏.‏ وقوله‏:‏ لنفزعا، أي‏:‏ لنغيث؛ يقول‏:‏ ما نزلنا في هذا الموضع إلا لنغيث من استغاث بنا‏.‏ والفزع من الأضداد، بمعنى الإغاثة والاستغاثة‏.‏

وقوله‏:‏ فأدرك إبقاء العرادة‏.‏‏.‏ إلخ ‏.‏ والعرادة بفتح العين والراء والدال المهملات‏:‏ اسم فرس الكلحبة، كانت أنثى‏.‏ والإبقاء‏:‏ ما تبقيه الفرس من العدو، إذ من عتاق الخيل ما لا تعطي ما عندها من العدو بل تبقي منه شيئاً إلى وقت الحاجة؛ يقال‏:‏ فرس مبقية‏:‏ إذا كانت تأتي بجري عند انقطاع جريها، وقت الحاجة‏.‏ يريد أنها شربت الماء فقطعها عن إبقائها ففاته حزيمة‏.‏

وروى أنقاء العرادة بفتح الهمزة وبالنون‏:‏ جمع نقو بالكسر، وهو كل عظم ذي مخ، يعني ظلعها وصل إلى عظامها‏.‏ وروى أيض‏:‏ إرقال العرادة بكسر الهمزة وبالقاف، وهو السير السريع، وهو مفعول، والظلع فاعل‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ الظلوع في الإبل بمنزلة الغمز أي‏:‏ العرج اليسير، يقال ظلع يظلع بفتحهما ظلعاً وظلوعاً؛ ولايكون الظلوع في الحافر إلا استعارة‏.‏ يقول‏:‏ فاتني حزيمة وما بيني وبينه إلا قدر إصبع‏.‏

وأورد الشارح هذا البيت في باب الإضافة على أن فيه حذف ثلاثة مضافات، أي‏:‏ جعلتني ذا مقدار مسافة إصبع‏.‏ والأولى تقدير مضافين، أي‏:‏ ذا مسافة إصبع، كما قدر ابن هشام في مغني اللبيب ؛ فإن المسافة معناها البعد، والمقدار لا حاجة إليه‏.‏ والمسافة وزنها مفعلة، أي‏:‏ محل السوف وهو الشم وكان الدليل إذا سلك الطرق القديمة المهجورة أخذ ترابها فشمه ليعلم أعلى قصد هو أم على جور‏؟‏ وإنما يقصد بشم التراب رائحة الأبوال والأبعار، فيعلم بذلك أنه مسلوك‏.‏

وكذلك أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكان قاب قوسين‏}‏ قال‏:‏ فيه حذف مضافين، كما في هذا البيت‏.‏ لكن تقديره مقدار مسافة إصبع يحتاج إلى تأويل لصحة الحمل‏.‏

وقوله أمرتكم أمري‏.‏‏.‏ إلخ اللوى بالقصر هو لوى الرمل، أي‏:‏ منقطعه حيث ينقطع ويفضي إلى الجدد؛ ومنعرجه‏:‏ حيث انثنى منه وانعطف‏.‏ وإنما قال بمنعرج اللوى ليعلم أين كان أمره إياهم، كما قال الآخر‏:‏ الكامل

ولقد أمرت أخاك عمراً أمره *** فأبى وضيعه بذات العجرم

وهذا البيت من شواهد سيبويه‏.‏ أورده الشارح أيضاً في باب الاستثناء، على أن نصب المستثنى في مثله قليل‏.‏ وقال الخليل‏:‏ مضيعاً‏:‏ حال، وجاز تنكير ذي الحال لكونه عاماً كأنه قال‏:‏ للمعصي أمره مضيعاً‏.‏ وبهذا يسقط قول الأعلم حيث قال‏:‏ الشاهد فيه نصب مضيع على الحال من الأمر؛ وهو حال من نكرة‏.‏ وفيه ضعف لأن أصل الحال أن تكون للمعرفة ‏.‏

أقول‏:‏ إن جعل حالاً من الضمير المستقر في قوله للمعصي فإنه خبر لا النافية، فلا يرد عليه ما ذكر‏.‏

وقال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون حالاً للمضمر، التقدير إلا أمراً في حال تضييعه، فهو حال من نكرة ‏.‏

أقول‏:‏ هذا التقدير من باب الاستثناء، ومضيعاً وصف للمضمر لا حال منه‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ ويجوز نصبه على الاستثناء، والتقدير إلا أمراً مضيعاً‏.‏ وفيه قبح لوضع الصفة موضع الموصوف ‏.‏

أقول‏:‏ لا قبح، فإن الموصوف كثيراً ما يحذف لقرينة‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ الاستثناء منقطع ‏.‏ أقول‏:‏ التفريغ لا يكون في المنقطع‏؟‏ ثم قال‏:‏ ولو رفع في غير هذا الموضع لجاز بجعله خبراً ل لا ‏.‏

أقول‏:‏ يجب حينئذ أن يقال ولا أمراً للمعصي بالتنوين، إلا على مذهب البغداديين‏.‏

وقد أورد أبو زيد في نوادره هذه الأبيات على غير هذا الترتيب، وروى أولها‏:‏

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى‏.‏‏.‏ البيت والكلحبة لقب الشاعر، وهو بفتح الكاف وسكون اللام وبعدها حاء مهملة فباء موحدة‏.‏ ومعناه في اللغة صوت النار ولهبها، كذا في العباب ‏.‏ وزاد في القاموس‏:‏ وكلحبه بالسيف‏:‏ ضربه ‏.‏ والعريني نسبه إلى عرين بفتح العين وكسر الراء المهملتين؛ والياء في فعيل تثبت في النسب؛ وهو جده القريب‏.‏ ويقال له‏:‏ اليربوعي أيضاً نسبة إلى جده البعيد‏.‏ وقولهم‏:‏ الكلحبة عرني نسبه إلى عرينه كجهني نسبه إلى جهينة، تحريف؛ فإن عربنة بالتصغير بطن من بجيلة، وليس من نسبه‏.‏

قال الآمدي في المؤتلف والمختلف‏:‏ الكلحبة اليربوعي اسمه هبيرة بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، أحد فرسان بني تميم وساداتها، وشاعر؛ وهو القائل‏:‏

فقلت لكأس ألجميها‏.‏‏.‏ البيت

وكذا قال أبو زيد في نوادره‏:‏ اسمه هبيرة بن عبد مناف، عم واقد بن عبد الله ابن عبد مناف‏.‏ ومثله قال ابن الأنباري‏:‏ الكلحبة‏:‏ اسمه هبيرة بن عبد مناف‏.‏

وقال الصاغاني في العباب‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ كلحبة‏:‏ اسمه عبد الله بن كلحبة، ويقال هبيرة بن كلحبة، فارس العرادة، ويقال اسمه حرير‏.‏ وأثبت من ذلك أن اسمه هبيرة بن عبد الله بن عبد مناف‏.‏‏.‏ إلى آخر نسبه‏.‏ وقال صاحب القاموس‏:‏ الكلحبة شاعر عرني، ولقب هبيرة بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين العرني فارس العرادة‏.‏ فتأمل ما فيه‏!‏ والظاهر أن حريراً ابنه، وهو بضم الحاء المهملة وفتح الراء الأولى، كما يفهم من قوله‏:‏

لعل حريراً أخطأته منية *** ستأتيك بالعلم العشية وغد

تقول له إحدى بلي شماته‏:‏ *** من الحنظلي الفارس المتفقد‏!‏

فإنه كان أراد بعض ملوك الشام، فسار حتى إذا صار في موضع يقال له قرن ظبي رجع، وقال‏:‏ الوافر

رددت ظعائني من قرن ظبي *** وهن على شمائلهن زور

فجاور في بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فأغار عليهم بنو جشم بن بكر من بني تغلب؛ فقاتل مع بلي هو وابنه، وقد أخذ بنو جشم أموالهم، حتى ردها؛ وجرح ابنه فمات من جراحته‏.‏

ومن شعر الكلحبة يخاطب جاريته كأساً؛ رواه أبو زيد في نوادره‏:‏ البسيط

يا كأس ويلك إني غالني خلقي *** على السماحة صعلوكاً وذا مال

تخيرني بين راع حافظ برم *** عبد الرشاء عليك الدهر عمال

وبين أروع مشمول خلائقه *** مستغرق المال للذات مكسال

فأي ذينك إن نابتك نائبة‏!‏ *** والقوم ليسوا وإن سووا بأمثال

قال أبو حاتم‏:‏ فأي‏:‏ بالرفع‏.‏ قال أبو علي‏:‏ أضمر اختاري لأن ذكره قد جرى، فهو منصوب‏.‏

وقال أخوه يرد عليه‏:‏

ألم تك قد جربت ما الفقر والغنى *** وما يعظ الظليل إلا ألالكا

عقوقاً وإفساداً لكل معيشة *** فكيف ترى أمست إضاعة مالكا

قال أبو حاتم‏:‏ إضاعة بالنصب‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ ترى المتعدية لمفعولين، ألغاها‏.‏

تتمة

قد أخذ البيت الشاهد شبيب بن الرصاء، وغير قافيته وقال‏:‏

دعاني حصين للفرار فساءني *** مواطن أن يثنى علي فأشتما

فقلت لحصن‏:‏ نج نفسك، وإنم *** يذود الفتى عن حوضه أن يهدما

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدما

سيكفيك أطراف الأسنة فارس *** إذا ريع نادى بالجواد وألجما

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت *** حبال الهوينى بالفتى أن تجذما

في القاموس‏:‏ وجذمه بالجيم والذال المعجمة فانجذم وتجذم‏:‏ قطعه‏.‏ ومثله كثير من الشعراء‏.‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى له نظائر كثيرة‏.‏ والبرصاء هي أم شبيب‏.‏ وأبوه اسمه يزيد‏.‏ وتنتهي نسبته إلى قيس بن عيلان‏.‏ وهو ابن خالة عقيل بن علفة‏.‏ وكل منهما كان شريفاً سيداً في قومه‏.‏ وكانا من شعراء الدولة الأموية‏.‏ وترجمتها طويلة في الأغاني ، قال صاحبه‏:‏ كان عبد الملك بن مروان يتمثل بهذه الأبيات لشبيب بن البرصاء، في بذل النفس عند اللقاء، ويعجب منه ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثاني والستون

فإن يك جثماني بأرض سواكم *** فإن فؤادي عندك الدهر أجمع

على أن الضمير انتقل من متعلق الظرف إلى الظرف وهو عندك ‏.‏ ووجه الدلالة أنه ليس قبل أجمع ما يصح أن يحمل عليه، إلا أن اسم إن والضمير الذي في الظرف والدهر؛ فاسم إن والدهر منصوبان، فبقي حمله على المضمر في عندك‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ هذا هو المختار، بدليلين‏:‏ أحدهما امتناع تقديم الحال في نحو‏:‏ زيد في الدار جالساً، ولو كان العامل الفعل لم يمتنع‏.‏ ولقوله‏:‏

فإن فؤادي عندك الدهر أجمع

فأكد الضمير المستتر في الظرف، والضمير لا يستتر إلا في عامله؛ ولا يصح أن يكون توكيداً لضمير محذوف مع الاستقرار، لأن التوكيد والحذف متنافيان؛ ولا لاسم إن على محله من الرفع بالابتداء، لأن الطالب للمحل قد زال ‏.‏

وقوله بأرض سواكم قال أبو عبيد البكري في شرح نوادر أبي علي القالي‏:‏ يروى بأرض سواكم على الإضافة، وهذا بين؛ ويروى بأرض سواكم يريد بأرض سوى أرضكم فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقوله عندك بكسر الكاف، فإنه خطاب لامرأة‏.‏ فإن قلت‏:‏ فكيف قال سواكم ‏؟‏ قلت‏:‏ قد تخاطب المرأة بخطاب جماعة الذكور مبالغة في سترها، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقال لأهله امكثوا‏}‏‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لجميل بن معمر يتغزل فيها بمحبوبته بثينة‏.‏ وما قبله‏:‏

ألا تتقين الله فيمن قتلته *** فأمسى إليكم خاشعاً يتضرع

وبعده‏:‏

إذا قلت هذا حين أسلو وأجتري *** على هجرها ظلت لها النفس تشفع

ألا تتقين الله في قتل عاشق *** له كبد حرى عليك تقطع

غريب مشوق مولع بأدكاركم *** وكل غريب الدار بالشوق مولع

فأصبحت مما أحدث الدهر موجع *** وكنت لريب الدهر لا أتخشع

فيا رب، حببني إليها وأعطني ال *** مودة منها، أنت تعطي وتمنع

ورأيت في تذكرة أبي حيان أن البيت لكثير عزة، وقال‏:‏ بعده‏:‏

إذا قلت هذا حين أسلو ذكرته *** فظلت لها نفسي تتوق وتنزع

والصواب ما قدمناه‏.‏ وجميل هو جميل بن عبد الله بن معمر، كذا قال ابن الكلبي وفي اسم أبيه فمن فوقه خلاف ذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ‏.‏ وصاحبته بثينة‏.‏ وهما من عذرة‏.‏ ويكنى أبا عمرو‏.‏ وهو أحد عشاق العرب المشهورين‏.‏ وكانت بثينة تكنى أم عبد الملك؛ ولها يقول جميل‏:‏

يا أم عبد الملك اصرميني *** وبيني صرمك وصليني

ويقال أيضاً إنه جميل بن معمر بن عبد الله‏.‏ والجمال والعشق في عذرة كثير‏.‏ وعشق جميل بثينة وهو غلام صغير، فلما كبر خطبها فرد عنها، فقال فيها الشعر؛ وكان يأتيها وتأتيه - ومنزلهما وادي القرى - فجمع له قومها جمعاً ليأخذوه، فحذرته بثينة، فاستخفى وقال‏:‏

ولو أن ألفاً دون بثنة كلهم *** غيارى وكل مزمعون على قتلي

لحاولتها، إما نهاراً مجاهر *** وإما سرى ليل، ولو قطعوا رجلي

وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم - وهو على المدينة من قبل معاوية - فنذر ليقطعن لسانه‏.‏ فلحق بجذام فقال‏:‏

أتاني عن مروان بالغيب‏:‏ أنه *** مقيد من دمي وقاطع لسانيا

ففي العيش منجاة وفي الأرض مذهب *** إذا نحن رفعنا لهن المثانيا

فأقام هناك إلى أن عزل مروان، ثم انصرف إلى بلده‏.‏

ومن شعره فيها‏:‏

علقت الهوى منها وليداً فلم يزل *** إلى اليوم ينمي حبها ويزيد

وأفنيت عمري بانتظار نواله *** فباد بذاك الدهر وهو جديد

فلا أنا مردود بما جئت طالب *** ولا حبها فيما يبيد يبيد

ويستجاد له قوله‏:‏

خليلي فيما عشتما هل رأيتم *** قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي

وقالت بثينة، ولا يعرف لها شعر غيره‏:‏

وإن سلوي عن جميل لساعة *** من الدهر ما حانت ولا حان حينها

سواء علينا يا جميل بن معمر *** إذا مت بأساء الحياة ولينها

وترجمة جميل في الأغاني طويلة جداً، وما ذكرناه ملخص من طبقات الشعراء لابن قتيبة‏.‏

وذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف ثلاثة ممن اسمه جميل‏:‏ أحدهم هذا والثاني‏:‏ جميل بن المعلى الفزاري وهو شاعر فارس، ومن شعره‏:‏ الوافر

فلا وأبيك ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

والثالث جميل بن سيدان الأسدي‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثالث والستون

ألا يا نخلة من ذات عرق *** عليك ورحمة الله السلام

لما تقدم في البيت قبله، بدليل العطف عليه‏.‏ فإن قوله ورحمة الله عطف على الضمير المستكن في عليك الراجع إلى السلام ، لأنه في التقدير‏:‏ السلام حصل عليك، فحذف حصل ونقل ضميره إلى عليك واستتر فيه‏.‏ ولو كان الفعل محذوفاً مع الضمير لزم العطف بدون المعطوف عليه‏.‏

وبهذا البيت سقط قول ابن خروف بأن الظرف إنما يتحمل الضمير إذا تأخر عن المبتدأ‏.‏ قال ابن هشام في المغني‏:‏ قول ابن خروف مخالف لإطلاقهم ولقول ابن جني في هذا البيت‏:‏ إن الأولى حمله على العطف على ضمير الظرف لا على تقديم المعطوف على المعطوف عليه‏.‏ قد اعترض بأنه تخلص من ضرورة بأخرى، وهو العطف مع عدم الفصل، ولم يعترض بعدم الضمير‏.‏ وجوابه‏:‏ أن عدم الفصل أسهل لوروده في النثر، كمررت برجل سواء والعدم، حتى قيل‏:‏ إنه قياس ‏.‏

وإنما نسب الأولوية إلى ابن جني لأنه ذهب - تبعاً لغيره - في حرف الواو من المغني إلى أنه من باب تقدم المعطوف على المعطوف عليه، وأنه من خصائص الواو‏.‏

وما زعمه الدماميني في الاختصاص‏:‏ بأن السعد قال في شرح المفتاح إن تقديم المعطوف جائز بشرط الضرورة، وعدم التقديم على العامل، وكون العاطف أحد حروف خمسة‏:‏ الواو، والفاء، وثم، وأو، ولا، وصرح به المحققون‏.‏ قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل‏:‏ مذهب الأخفش أنه أراد‏:‏ عليك السلام ورحمة الله، فقدم المعطوف ضرورة؛ لأن السلام عنده فاعل عليك‏.‏ ولا يلزم هذا سيبويه لأن السلام عنده مبتدأ، وعليك خبره، ورحمة الله معطوف على الضمير المستر‏.‏

وأنشد ثعلب في أماليه هذا البيت هكذ‏:‏ الوافر

ألا يا نخلة من ذات عرق *** برود الظل شاعكم السلام

شاعكم‏:‏ تبعكم، وعليه لا شاهد فيه‏.‏ وأنشده صاحب الجمل في باب النداء‏.‏ قال اللخمي‏:‏ ونخلة‏:‏ منادى منكر وهو الشاهد‏.‏ وحكى الأعلم‏:‏ أن كل نكرة تؤنث فلا تكون إلا منصوبة وإن كانت مقصودة معينة‏.‏ ونخلة عنده منادى مقصود ولكن لما نونها نصبها‏.‏ قال‏:‏ وذات عرق‏:‏ موضع بالحجاز‏.‏ وسلم على النخلة لأنه معهد أحبابه وملعبه مع أترابه؛ لأن العرب تقيم المنازل مقام سكانها فتسلم عليها وتكثر من الحنين إليها‏.‏

قال الشاعر‏:‏ الخفيف

وكمثل الأحباب، لو يعلم الع *** ذل، عندي منازل الأحباب

ويحتمل أن يكون كنى عن محبوبته بالنخلة لئلا يشهرها، وخوفاً من أهلها وأقاربها‏.‏ وعلى هذا الأخير اقتصر ابن أبي الإصبع في تحرير التحبير في باب الكناية، قال‏:‏ ومن نخوة العرب وغيرتهم كنايتهم عن حرائر النساء بالبيض؛ وقد جاء القرآن العزيز بذلك فقال سبحانه‏:‏ كأنهن بيض مكنون ، وقال امرؤ القيس‏:‏

وبيضة خدر لا يرام خباؤه *** تمتعت من لهو بها غير معجل

ومن مليح الكناية قول بعض العرب‏:‏ الوافر

ألا يا نخلة من ذات عرق *** عليك ورحمة الله السلام

سألت الناس عنك فخبروني *** هناً من ذاك تكرهه الكرام

وليس بما أحل الله بأس *** إذا هو لم يخالطه الحرام

فإن هذا الشاعر كنى عن امرأة بالنخلة، وبالهناة عن الرفث‏.‏ فأما الهناة فمن عادة العرب الكناية بها عن مثل ذلك، وأما الكناية بالنخلة عن المرأة فمن ظريف الكناية وغريبها ‏.‏

وقال شراح أبيات الجمل وغيرهم‏:‏ بيت الشاهد لا يعرف قائله، وقيل هو للأحوص‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الرابع والستون

أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل *** تهددكم إياي وسط المجالس

على أن تهددكم فاعل الظرف أعني قوله حقاً لاعتماده على الاستفهام؛ والتقدير‏:‏ أفي حق تهددكم إياي‏؟‏ كما قال الآخر‏:‏

أفي الحق أني مغرم بك هائم

وجاز وقوعه ظرفاً وهو مصدر في الأصل لما بين الفعل والزمان من المضارعة، وكأنه على حذف الوقت وإقامة المصدر مقامه، كما قالوا‏:‏ أتيتك خفوق النجم، أي‏:‏ وقت خفوق النجم، فكأن تقديره‏:‏ أفي وقت حق‏.‏

وقال ابن الشجري في أماليه‏:‏ قالوا حقاً إنك ذاهب، وأكبر ظني إنك مقيم؛ يريدون‏:‏ في حق، وفي أكبر ظني‏.‏

ولك في أن مذهبان‏:‏ فمذهب سيبويه والأخفش والكوفيين رفع أن بالظرف؛ وكل اسم حدث يتقدمه ظرف يرتفع عند سيبويه بالظرف ارتفاع الفاعل، وقد مثل ذلك بقوله‏:‏ غداً الرحيل، وأحقاً أنك ذاهب، قال‏:‏ حملوه على أفي حق أنك ذاهب والحق أنك ذاهب ‏.‏ والمذهب الآخر مذهب الخليل، وذلك أنه يرفع اسم الحدث بالابتداء ويخبر عنه بالظرف المتقدم‏.‏ حكى ذلك عند سيبويه في قوله‏:‏ وزعم الخليل أن التهدد هاهنا بمنزلة الرحيل بعد غد وأن أن بمنزلته‏.‏

وقال ابن هشام في مغني اللبيب‏:‏ أن وصلتها مبتدأ والظرف خبره؛ وقال المبرد‏:‏ حقاً‏:‏ مصدر لحق محذوفاً، وأن وصلتها فاعل‏.‏

وقد استشكل النحاس قول الخليل أن التهدد هنا بمنزلة الرحيل بعد غد‏.‏‏.‏ إلخ، فقال‏:‏ وهذا مشكل، وسألت عنه أبا الحسن فقال‏:‏ لأنك تقول أحقاً أن تتهددوا، وكذا أحقاً أنك منطلق، قال‏:‏ فحقاً عنده ظرف كأنه قال‏:‏ أفي حق انطلاقك؛ قال‏:‏ وحقيقته أزمن حق أنك منطلق‏؟‏ مثل واسأل القرية ‏.‏

قال محمد بن يزيد‏:‏ لم يجز الخليل كسر إن هنا، لأنه يكون التقدير‏:‏ إنك ذاهب حقاً، ثم تقدم؛ ومحال أن يعمل ما بعد إن فيما قبلها‏.‏ ولو كان العامل فيها جاز فيه التقديم والتأخير نحو حقاً ضربت زيداً؛ ولا يجوز حقاً زيد في الدار، فلذلك اضطر إلى تقدير في ‏.‏ وإن قلت‏:‏ أحقاً أنك ذاهب، جاز لأن العامل معنى‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعت أبا الحسن يقول‏:‏ نظرت في أحقاً فلم أجد يصح فيه إلا قول سيبويه‏:‏ على حذف في‏.‏ أراد بهذا الرد على الجرمي فإنه قال في هذا البيت ونحوه‏:‏ هو على التقديم والتأخير، ولا يكون على ما قاله سيبويه‏:‏ من أنه ظرف؛ لأن الظرف لم يجيء مصدراً في غير هذا‏.‏ وهذا الذي قاله قبيح من جهة أن ما ينتصب لدلالة الجملة عليه متقدم‏.‏ قال أبو علي في التذكرة هذا ليس بالحسن، على أن سيبويه قال‏:‏ غير ذي شك أنه خارج‏.‏ وقولهم‏:‏ غير ذي شك، فيه دلالة على جواز نصب حقاً على الظرف؛ ألا ترى أنه إنما أجاز تقديمه حيث كان غير ذي شك بمنزلة حقاً وفي معناه؛ فلولا أن حقاً في معنى الظرف عندهم لم يستعملوا تقديم ما كان في معناه، إذ العامل إذا كان معنى لم يتقدم عليه معموله؛ فلولا أن حقاً بمنزلة الظرف لما تقدم على العامل فيه وهو معنى‏.‏ ويؤكد ذلك أيضاً قولهم‏:‏ أكبر ظني أنك منطلق، فإجراؤهم إياه مجرى الظرف يدل على أن حقاً أيضاً قد أجري مجرى الظرف، إذ كانا متقاربي المعنى‏.‏ وقد أجري الجرمي هذه الأبيات التي أنشدها سيبويه على أنها محمولة على المصدر، وأن ما بعد المصدر محمول على الفعل وعلى المصدر، فإما أن يعمل فيه المصدر وإما أن يعمل فيه الفعل العامل في المصدر‏.‏ وهذا الذي أجازه جائز غير ممتنع وهو ظاهر‏.‏ وقد كنت سألت أبا بكر عنه فقلت‏:‏ ما تنكر أن يكون محمولاً على الفعل‏؟‏ فأجاز ذلك ولم يمتنع منه ‏.‏ وبني منادى مضاف لما بعده‏.‏ وسلمى بفتح السين‏.‏ وروي وعيدكم بدل تهددكم‏.‏ وسط بسكون السين‏:‏ ظرف بمعنى بين‏.‏

وهذا البيت للأسود بن يعفر، أول أبيات أربعة‏.‏ وهذا ما بعده‏:‏

فهلا جعلتم نحوه من وعيدكم *** على رهط قعقاع ورهط ابن حابس‏!‏

هم منعوا منكم تراث أبيكم *** فصار التراث للكرام الأكايس

وهم أوردوكم ضفة البحر طامي *** وهم تركوكم بين خاز وناكس

نحوه‏:‏ أي‏:‏ مثله ما هددتموني به‏.‏ والأكايس‏:‏ جمع أكيس، ومن الكياسة وهي الظرافة‏.‏ والضفة بالفتح والكسر‏:‏ جانب البحر والنهر والبئر‏.‏ وطامي‏:‏ من طما الماء يطمو طمواً ويطمي طمياً فهو طام‏:‏ إذا ارتفع وملأ النهر، وهو بالطاء المهملة‏.‏ وخاز‏:‏ من خزي بالكسر يخزى خزياً؛ إذا ذل وهان‏.‏ والناكس‏:‏ المطأطئ رأسه‏.‏

والسبب في هذه الأبيات كما في الأغاني‏:‏ أن أبا جعل أخا بني عمرو ابن حنظلة من البراجم، جمع من شذاذ أسد وتميم وغيرهم؛ فغزوا بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة، فنذروا بهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى فضوا جمعهم؛ فلحق رجل من بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة جماعة من بني نهشل فيهم جراح بن الأسود بن يعفر، وحرير بن شمر بن هزان بن زهير بن جندل، ورافع بن صهيب بن حارثة ابن جندل، وعمرو والحارث ابنا حرير بن سلمى ابن جندل؛ فقال لهم الحارثي‏:‏ هلم إلي يا طلقاء فقد أعجبني قتالكم، وأنا خير لكم من العطش‏.‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فنزل ليجز نواصيهم، فنظر جراح بن الأسود إلى فرسه فإذا هو أجود فرس في الأرض - يقال له العصماء - فوثب فركبها وركضها ونجا عليها‏.‏ فقال الحارثي للذين بقوا معه‏:‏ أتعرفون هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، نحن لك عليه خفراء‏.‏ فلما أتى جراح أباه أمره فهرب بها في بني سعد فابتطنها ثلاثة أبطن - وكان يقال لها العصماء - فلما رجع النفر النهشليون إلى قومهم قالوا‏:‏ إنا خفراء فارس العصماء، فوالله لنأخذنها‏.‏ فأوعدوه، وقال حرير ورافع‏:‏ نحن الخفيران لها - وكان بنو جرول حلفاء بني سلمى ابن جندل على بني حارثة بن جندل - فأعانه على ذلك التيجان بن بلج بن جرول ابن نهشل‏.‏فقال الأسود بن يعفر يهجوه‏:‏

أتاني ولم أخشى الذي ابتعثا به *** خفيرا بني سلمى حرير ورافع

هم خيبوني كل يوم غنيمة *** وأهلكتهم لو أن ذلك نافع

وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح هذا مع بقية الأبيات في آخر الكتاب في حروف الشرط‏.‏

قال‏:‏ فلما رأى الأسود أنهم لا يقلعون عن الفرس ويردها أحلفهم عليها، فحلفوا أنهم خفراء لها، فرد الفرس عليهم وأمسك أمهارها، فردوا الفرس إلى صاحبها؛ ثم أظهر الأمهار بعد ذلك فأوعدوه فيها أن يأخذوها‏.‏ فقال الأسود‏:‏

أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل‏.‏ الأبيات الأربعة والأسود هو ابن يعفر بن عبد الأسود بن جندل بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم‏.‏

قال السيوطي‏:‏ وجعله محمد بن سلام في الطبقة الثانية مع خداش بن زهير والمخبل السعدي والنمر بن تولب‏.‏ وكنيته أبو الجراح‏.‏ وكان ممن يهجو قومه‏.‏ وترجمه الآمدي في المؤتلف والمختلف فيمن لقب بالأعشى، فقال‏:‏ ومنهم أعشى بن نهشل وهو الأسود بن يعفر بن الأسود بن حارثة بن جندل بن نهشل بن دارم، الشاعر المشهور‏.‏

وفي الصحاح الأسود بن يعفر الشاعر إذا قلته بفتح الياء لو تصرفه لأنه مثل يقتل‏.‏ وقال يونس‏:‏ سمعت رؤبة يقول أسود بن يعفر بضم الياء - أي‏:‏ وبضم الفاء أيضاً - وهذا ينصرف لأنه قد زال عنه شبه الفعل ‏.‏

وهو شاعر مقدم فصيح من شعراء الجاهلية‏.‏ ليس بمكثر‏.‏ وله القصيدة المشهورة التي أوله‏:‏ الكامل

نام الخلي وما أحس رقادي *** والهم محتضر لدي وسادي

وفيها أبيات شواهد في المغني لابن هشام تشرح هناك إن شاء الله تعالى، وهي من مختار أشعار العرب، وحكمها مأثورة‏.‏

وكان ينادم النعمان بن المنذر‏.‏ ولما أسن كف بصره، فكان يقاد إن ذهب إلى موضع‏.‏

وابنه الجراح وأخوه حطائط شاعران‏.‏ ومن شعر حطائط، يقول لأمه وقد عاتبته على جوده‏:‏

أريني جواداً مات هزلاً لعلني *** أرى ما ترين وبخيلاً مخلدا

ذريني أكن للمال رباً ولا يكن *** لي المال رباً تحمدي غبه عدا

ذريني يكن مالي لعرضي وقاية *** يقي المال عرضي قبل أن يتبددا

وأنشد بعده‏:‏ وهو